• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حقوق الناس في شهر رمضان

جميل عودة

حقوق الناس في شهر رمضان

 أوجب الإسلام على المسلمين صيام شهر رمضان، وذلك لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). والصيام في شرع المسلمين هو الإمساك عن الأكل؛ والشرب؛ وسائر المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية التعبّد لله عزّوجلّ.

وقد حثّ الإسلام المسلمين على تكريم هذا الشهر العظيم، واغتنام ساعاته، وإحياء لياليه بالعبادة والصلاة والدُّعاء، ونهاره بالصيام والاجتهاد، في مرضاة الله؛ والعمل الصالح. جاء عن الإمام عليّ (ع) أنّ رسول الله (ص) خطبنا ذات يوم فقال: «أيّها الناس! إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله...».

وعلى أساس هذا التكريم، فمن صام من المسلمين في شهر رمضان طاعة لله عزّوجلّ، واستغل أيّامه ولياليه بالأعمال الصالحة، نال جزاء عظيماً، لا يحصى ثوابه، ولا يعدّ أجره، فتهذيب الأخلاق عليه أجر، وكف الشرّ عن الناس عليه أجر، وإكرام اليتيم عليه أجر، ووصل الأرحام عليه أجر، والصلاة تطوعاً عليها أجر، وتلاوة القرآن عليها أجر، والصلاة على النبيّ وآله عليها أجر، وكلّ عمل خير يقوم به الإنسان في شهر رمضان عليه أجر مضاعف، فضلاً من الله وإكراماً منه.

فقد قال رسول الله (ص) في خطبته: «أيّها الناس! من حَسُن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازاً على الصراط؛ ويوم تزل فيه الأقدام، ومَن خفف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومَن كف فيه شرّه كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومَن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومَن وصل فيه رحماً وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومَن قطع فيه رَحِمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومَن تطوّع فيه بصلاة كتبَ الله له براءة من النار، ومَن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب مَن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومَن أكثر من الصلاة عليَّ ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومَن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور».

ولذلك كلّه؛ فإنّ شهر رمضان ليس دعوة للإنسان لمراجعة ذاته، وتنمية مَلكة التقوى لديه، فحسب، بل هي أيضاً دعوة من الله ورسوله (ص) للناس جميعاً، وللمسلمين تحديداً، أن يضاعفوا أعمالهم في هذا الشهر، في سبيل خدمة الناس الآخرين، وتحصيل حقوقهم، وكأنّ الإنسان في غير شهر رمضان أكثر ما يكون منشغلاً بحياته الخاصّة من تحقيق طموحاته ورغباته، ومن أعمال ووظائف وتجارة يتكسب بها، ومن رعاية خاصّة لأفراد أُسرته، وكلّها أعمال تصبّ في توفير حياة كريمة له؛ ومَن في معيته، وهي أعمال ونشاطات محمودة ولكنّها محدودة.

ولذلك؛ فإنّ الله عزّوجلّ يلفت أنظارنا، في هذا الشهر الفضيل، إلى أفراد المجتمع الآخرين، ممّا قد ننشغل عنهم لفترات طويلة، أو نقصر في حقوقهم بين الحين والأخر. وهو نداء ربّاني لتجربة عطاء أُخرى يمكن أن نحقّق منّا أرباحاً لا تُحصى ولا تُعدّ، سواء أكانت في الدُّنيا أم في الآخرة، والإنسان أي إنسان أحوج ما يكون إليها عاجلاً أم آجلاً.

إذن هناك مجموعة من الناس ممّن ينبغي أن نولي لهم اهتماماً خاصّاً، يلائم أهميّة شهر رمضان وقيمته عند الله عزّوجلّ، كلّ بحسب قدرته الفكرية والمالية والبدنية، فبعضنا قد يمارس دوراً تربوياً وإرشادياً، وبعضنا يخصص جزء من أمواله وأملاكه لمساعدة الفقراء والأيتام وغيرهم من الفئات المحتاجة، وبعضنا يتواصل مع الناس مباشرة، ويقدّم خدماته لهم وجهاً لوجه.

وليس بالضرورة أن نقدّم خدماتنا لجميع الناس، بل يمكن أن نبدأ من فئات اجتماعية محدّدة على أساس الأقرب فالأقرب، سواء في النسب أو السكن أو العقيدة، أو الإنسانية، مثل الفئات الآتية:

1- الوالدان: فحقّ الوالدين على الأبناء لا يستطيع أن يحصيه إنسان، فهما سبب وجود الأبناء والبنات، بعد الله عزّوجلّ، ولن يستطيع الأبناء أن يحصوا ما لقاه الأبوان من تعب ونصب وأذى، وسهر وقيام، من أجل راحة الأبناء والبنات، وفي سبيل رعايتهم، والعناية بهم. وحثّ الإسلام على برّ الوالدين في كتاب الله عزّوجلّ وسنة نبيه، لما لهما من فضل وحقوق على الأبناء، فقال سبحانه وتعالى (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) (الأحقاف/ 15).

ولا شكّ أنّ برّ الوالدين مقدّم على برّ غيرهما من الناس، سواء الولد أو الزوجة أو الأصدقاء أو الأقرباء أو غير أُولئك من الناس. وبرّ الوالدين يكون بكلّ ما تصل إليه يد الأبناء من طعام وشراب وملبس وعلاج، وكلّ ما يحتاجانه من خدمة وبرّ ومعروف. وقد جاء عن الإمام السجاد (ع) في صحيفته قوله: «وأمّا حقّ أبيك فتعلم أنّه أصلك، وأنّك فرعه، وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النِّعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلّا بالله...».

2- الأزواج: لا تستقيم الحياة الزوجية إلّا على أساس المودّة والرحمة والاحترام المتبادل بين الزوجين، ورعاية كلّ منهما الآخر. ولذلك فرض الشارع المقدّس لكلّ منهما حقوقاً على الآخر أوجب إتباعها وحرّم التخلّف عنها، فقال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة/ 228) وحقوق وواجبات الزوجين إزاء بعضهم بعضاً لا تقف عند حدود معينة، بل هي حقوق وواجبات مستمرة ما زالا زوجين. وأجواء شهر رمضان فرصة لتحسين هذه العلاقة وتنميتها.

3- الأبناء: قـد بيّن القـرآن الكريم أنّ مـن أطيب ثمـار العلاقـات الزوجية، وأنّ أكثـر مـا يحقّق السعادة الزوجية نِعمة الأبناء الذين هم بهجة القلوب، ومهجة العيون وفلذات الأكبـاد، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21).

 ووصف القـرآن الكريم الأبنـاء أنّهم زينة الحياة الدُّنيا، حيث قـال تعـالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46). وإنّما كان المال والبنون زينة الحياة الدُّنيا، لأنّ فـي المـال جمـالاً ونفعـاً، وفـي البنين قـوّة ودفعـاً، وهذه الزينة لـن تكتمـل وتتحقّـق إلّا باستقرار الأُسـرة، وإحاطة البيت بـدفء المشـاعر، ونبل العواطف، وصدق الأحاسيس. وهذا إنّما يتحقّق بصلاح الأولاد، واستقامة سلوكهم.

 إنّ الولد إنّما هو امتداد لحياة أبيه، واستمرار لوجوده، فهو بعضه، بل هو كلّه يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولده الإمام الزكي الحسن (ع): «ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي..».

4- الجيران: أوجَبَ الله على المُسلِمين أن يُحسنوا إلى الجار قريباً أم بعيداً، عربياً أم أعجمياً، دون تمييزٍ بين عرقٍ وعرق، أو لونٍ ولون؛ فالجار جارٌ له احترامُه، ومكانته، وله اعتباره، وله حقوقٌ، سواءً أكان مُسلِماً أم غير. قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) (النِّساء/ 36).

وعن الرسول (ص) أنّه قال: «ما زالَ يوصيني جبريلُ بالجارِ حتى ظننتُ أنّه سيورِّثُهُ»، ونهى النبيُّ عن إيذاء الجار؛ بل جعل إيذاء الجار من الأفعال التي تُعدُّ نقصاً في إيمان المسلم، فقال (ص): «والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمنُ. قيل: ومن يا رسولَ الله؟ قال: الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه».

 وأمّا ما جاء عن حقّ الجار في رسالة الإمام عليّ زين العابدين (ع) المسماة برسالة الحقوق قال فيها: «وأمّا حقّ جارك فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً، ولا تتّبع له عورة فإن علمت عليه سوء سترته عليه، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تسلمه عند شدائده، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة».

5- الأيتام: اليتيم هو من فقد أباه، ولم يبلغ مبلغ الرجال، وقد أوصى القرآن الكريم بالإحسان إليهم. حيث قال الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى)، وأوصى بإصلاحهم (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) (البقرة/ 220)، والإنفاق عليهم (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى) (البقرة/ 215)، وحفظ أموالهم والتحذير من أكلها (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (الأنعام/ 152)، ومخالطتهم ومؤاخاتهم (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، والقيام لهم بالقسط إي إدارة شؤونهم بالعدل (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) (النِّساء/ 127)، والنهي عن قهر اليتيم (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى/ 9)، أو زجره وتعنيفه (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون/ 1-2)، ولـذلك نــرى أنّ الــدِّين الإسلامي الحنيـف يفـرض علـى مجتمعـه، ويكلّف كلّ فــرد مــن أبنائـه برعايـة اليتـيم، والعنايـة بـه في سـائر شـؤون الحيـاة لـئلا ينشـأ فاقـد التوجيـه، ويصـبح عاهـة في المجتمع العـام، فإهمـال اليتـيم يسـاوي إهمــال المجتمع، وهـدم كيانـه الحـافظ للحيـاة الإنسـانية العامّة.

6- الأرامل: الأرملة هي المرأة التي مات زوجها، وسُمّيت أرملة لافتقارها إلى مَن يعيلها. ويقال للرجل أرمل؛ وللمرأة أرملة، والجمع أرامل. ولا شكّ أنّ المرأة الأرملة هي الأُخرى بحاجة إلى التفاتة من لدى المجتمع عامّة والدولة خاصّة، كونها كانت تعيش في كنف رجل يرعاها ويوفّر حاجتها ويحميها من الآخرين، لا سيّما في مجتمعاتنا، حيث تعتمد المرأة بشكل كلّي تقريباً على الرجل أباً أو أخاً أو زوجاً. وعليه فهي تظل بحاجة إلى مَن يوفّر لها المال والأكل والشرب بعد أن فقدت زوجها الذي تكفل القيام بكلّ هذه الأُمور، ويكف يدها عن السؤال عمّا فـي أيـدي الناس، ويصون ماء وجهها له عند الله أجر عظيم.

7- ذوو الاحتياجات الخاصّة (المعاقون): يعرف المعاق أنّه كلّ شخص فقد قدرته على مزاولة عمله. أو القيام بعمل آخر، نتيجة لقصور بدني، أو عقلي، سواءَ أكان هذا القصور بسبب إصابته في حادث، أم مرض، أم عجز ولادي. وأنواع القصور التي يتعرّض لها الإنسان، إمّا أن تكون بدنية كفقد أجزاء من الجسم، أو حدوث خلل، أو تشوه بها، وإمّا أن تكون عقلية كنقص في القدرات العقلية، أو قد تكون حسية كفقد أو نقص حاسة من الحواس. فالشخص حين يصاب بعاهة جسدية نتيجة لحادث، أو لمرض، أو لسبب نقص خلقي، أو لإصابة بالرصاص، أو التعذيب، ينبغي أن يلقى رعاية وعطف ومحبّة من كلّ الأشخاص السلميين المحيطين به.

 لقد نهى القرآن الكريم ونهى النبيّ (ص) نهياً قاطعاً وعاماً أن تتّخذ العيوب الخلقية سبباً للتندّر أو العيب أو التقليل من شأن أصحابها، وأنّه يجب أن يُعطى المعاق حقّه كاملاً في المساواة بغيره ليحيا حياة كريمة وطبيعية قدر الإمكان ولا يقلّل أي أحد مهما كان مركزه في المجتمع من قيمته. حيث ورد في القرآن الكريم ذكر لعدد كثير من صُوَر الإعاقة الشائعة في الناس مثل: (الصمم - البكم - العمى - العرج - السفه - الإعاقات العقلية - أنواع الأمراض (كالبرص) وغيرها)، كما وتناوله رسول الله (ص) في أحاديثه.

 وحثّ الإسلام المجتمع بالتأدّب معهم بآداب الإسلام التي تزرع المحبّة والودّ وتقطع أسباب الشحناء والحزن، فجعل من المحرّمات والكبائر السخرية والاستهزاء والهمز بأية وسيلة كانت، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 11).

ارسال التعليق

Top